الملتقى الدولي للفلاحة بمكناس يضع الماء و الفلاحة والعالم القروي في قلب التنمية المستدامة…
مع اقتراب انعقاد الدورة السابعة عشرة للملتقى الدولي للفلاحة بالمغرب، التي ستحتضنها العاصمة الإسماعيلية مكناس خلال الفترة الممتدة من 21 إلى 27 أبريل الجاري، تتجه أنظار المعنيين بالشأن الفلاحي، داخل المغرب وخارجه، نحو واحد من أهم المواعيد القارية والعالمية التي ترسم ملامح الفلاحة الحديثة، وتناقش رهاناتها في زمن التغير المناخي والبيئي.
وإذا كان هذا الملتقى يشكل تقليدًا مؤسسيًا سنويًا يكرّس ريادة المغرب في المجال الفلاحي، فإن دورة هذه السنة تنعقد تحت شعار بالغ الدلالة: “الفلاحة والعالم القروي: الماء في قلب التنمية المستدامة”. إنه شعار لا يختزل فقط محور الدورة، بل يختصر أولوية الأولويات، وأم القضايا التي باتت تؤرق المخططين والباحثين والفلاحين على حد سواء: الماء، عصب الحياة، بات اليوم التحدي الأكبر في معركة البقاء والتطور.
في خضم سنوات من الجفاف المتتالي، وتراجع حاد في التساقطات، وتزايد الطلب على الماء بفعل التوسع العمراني والفلاحي ، لم يعد الحديث عن ندرة المياه ترفًا نظريًا أو توقعًا مستقبليًا، بل أصبح واقعًا ضاغطًا يفرض نفسه على صانع القرار وممارس الزراعة في الحقول. من هنا، تتجلى أهمية شعار الدورة، فهو يعكس انتقال الوعي الرسمي والمجتمعي من التعامل مع الماء كمورد طبيعي فقط إلى اعتباره عنصرًا استراتيجيًا في الأمن الغذائي، وضمانة أساسية لتحقيق تنمية متوازنة في العالم القروي.
تنظيم هذا الملتقى الدولي الكبير تحت الرعاية السامية لصاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله، يؤكد مجددًا الرؤية الملكية الثاقبة التي جعلت من قضايا الماء والفلاحة والبيئة أولوية وطنية، تنعكس في السياسات والاستراتيجيات الكبرى، بدءًا من “مخطط المغرب الأخضر”، وصولًا إلى “الجيل الأخضر 2020-2030″، وما يتخللهما من مشاريع طموحة لإعادة تأهيل البنيات المائية، وتعميم أنظمة الري الموضعي، وتحلية المياه، وتثمين المياه العادمة، والتحول نحو الطاقات المتجددة في ضخ المياه.
لكن المعركة من أجل الماء لا يمكن أن تكون حكراً على الدولة فقط، بل هي ورش مفتوح لجميع الفاعلين: الباحث، والمستثمر، والفلاح والمهندس ، والمواطن. من هنا تأتي أهمية هذا الملتقى، ليس فقط كمنصة للعرض والترويج التجاري، بل كمختبر جماعي لإنتاج الأفكار، ومجال حيوي لتلاقح التجارب، ومسرح لعرض الابتكارات في مجالات السقي الذكي، والزراعة الدقيقة، والهندسة البيئية.
إن استضافة فرنسا كضيف شرف خلال هذه الدورة، لا تكتسي فقط بعدًا رمزيًا يعكس عمق العلاقات المغربية-الفرنسية، ولكنها تعزز كذلك آفاق التعاون الثنائي في مجالات التكنولوجيا الزراعية، وتدبير الموارد المائية، وتطوير الصناعات الغذائية، وهي مجالات تحتاجها فلاحتنا اليوم بشدة، لضمان مردودية أوفر بموارد أقل، وإنتاج غذائي مستدام يحترم البيئة ويصون حق الأجيال المقبلة في الماء والغذاء.
وعلى مساحة 12.4 هكتارًا، بمشاركة 1.500 عارض من 70 دولة، وحضور أكثر من 1.1 مليون زائر متوقع، سيكون ملتقى مكناس هذه السنة نقطة تحول جديدة، ليس فقط في تاريخ المعرض، ولكن في تاريخ الفلاحة المغربية نفسها. وسيشكل حضور الأقطاب الموضوعاتية، من قبيل “الفلاحة الرقمية”، و”الصناعات الغذائية”، و”البيئة”، و”المنتجات المجالية”، مناسبة لمزيد من التناغم بين الابتكار والهوية، بين الأصالة والتحديث، في خدمة فلاحة قادرة على مواجهة تقلبات المناخ دون المساس بركائز الأمن الغذائي الوطني.
فلا يمكن لفلاحة القرن 21 أن تستمر بعقليات الماضي، كما لا يمكن للعالم القروي أن يحقق إقلاعه دون عدالة مائية. وهنا يتجدد السؤال الجوهري: كيف نحول تحدي الماء إلى فرصة؟ وكيف نحمي فلاحتنا ومجالاتنا القروية من خطر تصحر التربة والهشاشة المائية؟.
التحديات التي تواجه القطاع الفلاحي اليوم تتطلب رؤية استراتيجية طويلة المدى، تقوم على التوازن بين تحقيق الإنتاج الفلاحي وضمان استدامة الموارد الطبيعية. فالمغرب، الذي نجح خلال العقود الماضية في تطوير فلاحة تنافسية، مدعو اليوم إلى تعزيز مكانته كقوة فلاحية إقليمية عبر استراتيجيات أكثر شمولية، تدمج بين التكنولوجيا والبحث العلمي والاستثمار في البنيات التحتية المائية. ويشكل الملتقى الدولي للفلاحة بمكناس لحظة فارقة في هذا المسار، حيث سيكون مناسبة لصياغة إجابات ملموسة عن الأسئلة الكبرى التي تواجه الفلاحة المغربية، من قبيل كيفية تحقيق سيادة غذائية مستدامة في ظل شح المياه، وأفضل الممارسات لضمان تدبير فعال للموارد المائية في العالم القروي، وسبل تشجيع الفلاحين على تبني تقنيات الزراعة الذكية والمستدامة .
إننا اليوم في مفترق طرق: إما أن نواصل الزراعة بنفس الأنماط المهدِرة للماء وندفع الثمن بيئيًا واجتماعيًا، أو أن نُقدِم بشجاعة على التحول نحو نموذج فلاحي ذكي، مندمج، ومتين، يضع الماء في قلب كل المخططات.
وفي مدينة مكناس، التي كانت ولا تزال قلب الفلاحة المغربية النابض، سينعقد هذا الحوار الحاسم، وستنبثق من أروقة الملتقى أسئلة وإجابات، مشاريع ورؤى، تؤسس لمستقبل أكثر أمنًا، ولفلاحة تُثمر غذاءً بدون أن تستنزف الحياة.
فالماء، أيها السادة، لم يعد مجرد مورد… بل أصبح مسألة سيادة وطنية، وبقاء وجودي.
#عادل العربي