مجلة المحيط الفلاحي

حين تصبح التربة ضحية لعجلة الربح السريع: سلوكيات بعض الفلاحين تُهدد مستقبل الزراعة الحافظة

في الوقت الذي تُبذل فيه وزارة الفلاحة وشركائها جهود وطنية كبرى لتعميم أنظمة الزراعة الحافظة، وتُستثمر فيه الطاقات والخبرات لتثبيت ممارسات فلاحية مستدامة تحمي التربة وتواجه تحديات التغير المناخي، يظهر خصم آخر لا يقل خطورة عن الرعي الجائر، بل ينبع من داخل الحقل نفسه: سلوكيات بعض الفلاحين التي تقوّض مبادئ الزراعة الحافظة من جذورها، حرفيًا ومجازيًا.

ففي كثير من المناطق، وبعد انتهاء موسم الحصاد، يعمد عدد من الفلاحين إلى كراء أراضيهم لوسطاء لا تعنيهم سوى القيمة السوقية للتبن. وبدافع الربح السريع، يُسمح لهؤلاء بإدخال “الراطو” مرة ومرتين وثلاثًا، حتى تُستأصل بقايا المحاصيل بالكامل، بما فيها الجذور. وهكذا تُجتث الركيزة الأساسية التي تقوم عليها الزرع المباشر الإبقاء على بقايا النباتات لتغذية التربة، وحمايتها من التعرية، والاحتفاظ برطوبتها.

أي زراعة حافظة نتحدث عنها، إذن، إذا كان أول مبادئها يُضرب في الصميم…؟

كيف يمكن لفلاح أن يشارك في برامج الدعم التقني والتكويني للزراعة الحافظة، ثم في لحظة يفرّط في كل تلك المكتسبات مقابل دخل محدود…؟ ألا يدرك أن هذا الدخل السريع قد يأتي على حساب خصوبة أرضه، واستدامة إنتاجيته، وربحية مشروعه الفلاحي على المدى المتوسط والطويل؟

إننا هنا لا نُدين الفلاح، بل ندعو إلى وقفة تأمل عقلانية مبنية على الحقائق والأرقام. ويمكن ببساطة وضع نموذج حسابي يُظهر الفارق بين العائد الفوري من بيع التبن أو كراء الأرض، والمردودية الاقتصادية والبيئية التي توفرها بقايا المحاصيل عند تركها في مكانها: وندكر منها تحسين بنية التربة وخصوبتها بالإضافة إلى الحد من الانجراف والتعرية وكذلك المساهمة في خفض تكاليف الفلاحة الميكانيكية ورفع القدرة على الاحتفاظ بالرطوبة ، و تعزيز التوازن البيولوجي في التربة.

كل هذه الفوائد تتراكم موسمًا بعد آخر، وتُترجم في النهاية إلى إنتاجية أعلى وتكاليف أقل وربح أكثر استقرارًا.

الزراعة الحافظة ليست مجرد وصفة تقنية أيها الفلاحين يتم تطبيقها بآليات سطحية، بل هي منظومة فكرية وممارسة شاملة تستند إلى الالتزام والاستمرارية. وهي، قبل كل شيء، رهان على المستقبل، لا يمكن كسبه دون وعي جماعي ومسؤولية فردية.

لذلك، فإن المطلوب اليوم ليس فقط تكوين الفلاحين تقنيًا، بل إعادة بناء الوعي الفلاحي بأهمية البعد الاستراتيجي للقرارات اليومية داخل الحقل. فكل “راطو” إضافي قد لا يُسجَّل في دفتر المحاسبة، لكنه يُسجَّل في سجل استنزاف التربة، ونفاد صبر الأرض.

إن حماية التربة ليست ترفًا بيئيًا، بل ضرورة اقتصادية وأخلاقية. وإذا أردنا لبرامج الزرع المباشر وخصوبة التربة والكربون الفلاحي أن تُثمر، فلابد أن نضع السلوك الفلاحي على طاولة النقاش بجرأة وصدق، ونسائل أنفسنا:
هل نحن فعلاً مستعدون للزراعة الحافظة، أم نُفرط في جذورها مقابل شعير هشّ من التبن…؟

#عادل العربي

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.