رياض يكتب…”الكاسافا” خيار المستقبل في زمن القمح الغالي والتغيرات المناخية
في عمق المائدة المغربية، يتربع القمح ملكًا متوَّجًا، حاضرًا في كل وجبة، متجذرًا في الذاكرة الجماعية، ليس فقط كغذاء، بل كرمز ثقافي واجتماعي يختزل قصص الكدح والكرامة. فالخبز عند المغاربة ليس مجرد طعام، بل هو «طرف العيش» الذي يُضرب به المثل، وتُربط به الأحلام اليومية: “نخدمو على قبل طرف الخبز”، “ناكلو غير الخبز وآتاي”، وغيرها من العبارات التي تختزل العلاقة الوجدانية بين المغاربة وخبزهم.
لكن هذه العلاقة الراسخة أصبحت اليوم مهددة ليس بسبب تغير المزاج الشعبي، بل بفعل تقلبات المناخ، وتفاقم الأزمات الجيوسياسية، وعلى رأسها الحرب الروسية الأوكرانية التي أوقفت عجلة التوريد، ورفعت أسعار القمح إلى مستويات قياسية، بما أرهق ميزانيات الدول المستوردة، ومنها المغرب.
اهتمام الخبراء العالميين…
ورغم الجهود التي بُذلت لاختبار محاصيل بديلة كالـ”كينوا”، والتي تميزت بقيمتها الغذائية العالية، إلا أن الكلفة المرتفعة وعزوف الناس عن اعتمادها في صناعة الخبز الشعبي جعلاها حلا نخبويًا غير قابل للتعميم. وفي خضم هذا السياق المأزوم، يتجه اهتمام الخبراء العالميين نحو نبتة تُلقب بـ”نبتة القرن الواحد والعشرين”، وقد تعيد رسم ملامح الأمن الغذائي العالمي: الكاسافا.
الكاسافا: الجذور التي قد تُنقذ العالم…
تعرف الكاسافا، أو “اليوكا” أو “المنيهوت”، بأنها نبات جذري ينتمي إلى عائلة الفربيونيات، وتُزرع أساسًا في المناطق الاستوائية بأفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، حيث تشكل عنصرًا أساسيًا في غذاء ملايين السكان.
ويمتاز هذا النبات بقدرة مدهشة على مقاومة الجفاف، والتأقلم مع التربة الفقيرة والظروف المناخية الصعبة، مما يجعله خيارًا مثاليًا للزراعة في المناطق المتأثرة بتغيرات المناخ، كما هو الحال في أجزاء واسعة من المغرب.
يُزرع الكاسافا عبر غرس أجزاء من السيقان في التربة، لينمو خلال أشهر قليلة ويمنح جذورًا غنية بالنشا، تستخرج منها مادة دقيق الكاسافا، التي يمكن استخدامها لصناعة الخبز، الكعك، والمعجنات.
استعمالات متعددة… وقيمة مضافة
يتجاوز دور الكاسافا الاستخدام الغذائي إلى أدوار اقتصادية وتنموية واعدة:
دقيق الكاسافا: يُستخدم في إعداد الخبز بشكل يشبه دقيق القمح، مع إمكانية مزجه لتحسين القوام والنكهة.
قشور الكاسافا: تدخل في صناعات الورق والنسيج.
أوراق وسيقان النبات: تحتوي على نسبة عالية من البروتين (تفوق 22%)، ما يجعلها علفًا ممتازًا للماشية، مما يربط الزراعة النباتية مباشرة بتقوية قطاع تربية المواشي.
مصر… تجربة علمية حبيسة الأدراج…
لم تكن الدول العربية بعيدة عن هذا التوجه، فقد اشتغلت مصر على مدار أكثر من عشرين سنة على تأهيل نبتة الكاسافا مخبريًا، وأجرت تجارب ميدانية واعدة في بعض المناطق الزراعية، لكن – للأسف – ظلت نتائج هذه الأبحاث حبيسة الرفوف، تُستعرض في المؤتمرات وتُسخّر للترقيات الأكاديمية، دون أن تجد طريقها إلى التطبيق العملي وخدمة الأمن الغذائي.
دعوة إلى الانخراط المغربي..
اليوم، وأمام ارتفاع فاتورة القمح، وضغط التغيرات المناخية، وتهديدات الاضطرابات الجيوسياسية، يصبح من الضروري التفكير في استباق المستقبل عبر إدماج الكاسافا ضمن الاستراتيجية الوطنية للأمن الغذائي.
ولا شك أن المغرب، بتجربته في الزراعات البديلة وبرامج “الجيل الأخضر”، وبفضل خبرائه ومراكز أبحاثه الفلاحية، قادر على قيادة تجربة رائدة في هذا المجال. فالكاسافا ليست فقط بديلاً للقمح، بل مدخلًا لتعزيز السيادة الغذائية، وتحقيق التكامل بين الزراعة وتربية الماشية، وتقوية الاقتصاد القروي.
الخبز لن يغيب عن موائد المغاربة، ولن تزحزحه المحن، لأنه ليس فقط مادة غذائية بل رمز للعيش والكرامة. لكن لضمان استمراريته في المستقبل، لا بد من البحث الجاد في بدائل مستدامة. ولعل الكاسافا، هذه النبتة القادمة من عمق المناطق الاستوائية، قد تحمل للمغاربة وعدًا جديدًا… بوطن يأكل من جذوره، ويزرع مستقبله بثقة واقتدار.
#رياض وحتيتا : خبير زراعي مستشار فلاحي معتمد